PREGNANCY BIRTH

كــل مــا يــتــعــلــق بــالــقــانــون الإداري الــمــغــربــي

قضاء إداري - قرارات إدارية - عقود إدارية - دروس وقالات قانونية - نقاشات قانونية - تساؤلات - مساعدة - جديد الوظائق العمومية - أخبار قانونية وفقهية - والمزيد المزيد ....

من نحن

المسؤولية الإدارية لمرفق الصحة بين الخطأ الجسيم والخطأ البسيط

Unknown 0 تعليق 9:29 ص

يعد مرفق الصحة الجهاز الوحيد الذي بواسطته تقوم الدولة بتقديم الخدمات الصحية للأفراد، حيث تتولى تقديم مزيج متنوع من الخدمات الصحية، الوقائية، والتعليمية، والتدريبية، فيساهم في ذلك في رفع المستوى الصحي للبلاد، وتحقيق التوازن الذي يتطلبه أي مجتمع كان وفي أي وقت وجد، فالفرد وأن ليكن يتمتع بصحة كاملة فليس بمقدوره القيام بأي نشاط تستدعي إليه ضرورة الحياة العلمية وتقتضيه ظروف انخراطه في المجتمع ينفع وينتفع به.
وفي هذا الإطار فقد مرت المرافق الصحية من مجموعة من تطورات و التحولات أثرت كل مرحلة على أداءه وأجهزته، حيث اتجه الاجتهاد القضائي تدريجيا إلى التخلي عن قواعد القانون المدني واتخاذ قواعد جديدة مغايرة لها، تتميز بطبيعة خاصة، و تتفق مع طبيعة الإدارية لإقرار مبدأ مسؤولية الإدارة عن أعمالها و الحاجة إلى وجود قضاء إداري متخصص و مستقل بقواعده و نظرياته و أحكامه عن القضاء العادي.
هذا التطور الذي طرأ على مستوى المسؤولية الإدارية، لم يطرأ في ذلك الوقت على نفس مسؤولية المرافق الصحية، لاسيما فيما يخص تحمل مسؤولية موظفو هذا المرفق )الأطباء، الممرضون( وذلك رغم الاعتراف بالطبيعة الإدارية لها، فبقي القضاء رغما عن ذلك الإقرار يطبق على أطباء المرافق الصحية القواعد نفسها التي يطبقها على أطباء القطاع الخاص ، إلا أن الوضع لم يضل كما هو عليه، فسرعان تغيرت نظرة القضاء هذه حيث تم الإقرار على كون الطبيب ممارسا لمهنة فنية وعلمية لا تؤثر على طبيعة العلاقة بالمرفق، حيث يعتبر موظف كغيره من موظفي المؤسسات العمومية ، يتمتع بمزايا الموظف العمومي و يرتبط بمسؤولية المرفق الصحي، وعلى ذلك فإن النظر في المسؤولية الناجمة عن الأخطاء التي يقترفها هذا الطبيب تدخل من اختصاص القضاء الإداري و ليس القضاء العادي.
وإذا كانت هذه هي القاعدة العامة في المرافق الصحية عن أخطاء موظفيها، إلا أن ذلك ليس في كل الحالات، و العمل بذلك لا يعني تحمل المرفق الصحي عبئ المسؤولية عن أخطاء موظفيها خاصة في مهنة لا تسمح أبدا لأي خطأ و لو كان يسيرا.
و في هذا الاتجاه فقد أرسى الإجتهاد القضائي في السابق قاعدة عدم مسؤولية المرافق الصحية إلا بناءا على الخطأ الجسيم أو الذي يصل إلى حدا من جسامة، أما الأخطاء البسيطة فلا تكون في تلك المرحلة محلا للمسائلة بجميع أنواعها، وهو ما خلق نقاشا فقهيا و قضائيا، ساعد الإجتهاد القضائي في التخفيف من مرونة اشتراط الخطأ الجسيم وإقرار توجه الحديث في مجال المسؤولية الطبية ؟ فماهي أهم التوجهات القضائية في إقرار نظام الخطأ الجسيم؟ وما هي أهم المبررات التي ساقها الإجتهاد القضائي الحديث في هجر نظام الخطأ الجسيم و إقرار نظام الخطأ البسط؟
و على هذا ارتأينا تقسيم دراستنا لهذا الموضوع إلى فرعين وذلك على الشكل التالي:
الفرع الأول: الاتجاه الكلاسيكي في إقرار نظام الخطأ الجسيم
الفرع الثاني: الاتجاه الحديث في إقرار نظام الخطأ البسيط
الفرع الأول: الاتجاه الكلاسيكي في إقرار نظام الخطأ الجسيم
سنحاول من خلال هذا الفرع الوقوف على المبررات التي اعتمدها الاجتهاد القضائي الفرنسي (الفقرة الأولى) وكذا الاجتهاد القضائي المغربي (الفقرة الثانية) لاعتماد فكرة الخطأ الجسيم في إقراره مسؤولية الدولة عن مرافقها المصلحية.
1. الفقرة الأولى: إتجاه القضاء الفرنسي
جرى قضاء مجلس الدولة الفرنسي في مجال مسؤولية المرفق الصحي العام على التمييز بين المسؤولية عن العمل الطبي والمسؤولية عن تنظيم وتسيير المرفق الطبي، حيث اعتبر أن المسؤولية بالنسبة للعمل الطبي لا تنعقد إلا إذا كان الخطأ جسيما ، ويقصد بالعمل الطبي، العمل الذي يقوم به الطبيب أو الجراح، ويتمثل في تحديد التشخيص الطبي أو إنجاز العمليات الجراحية، والقيام بأعمال الرعاية اللاحقة للجراحة مباشرة. أما المسؤولية عن تنظيم وتسيير مرفق المستشفيات، فإنها تنعقد ولو كان الخطأ بسيطا أو يسيرا، ويقصد بالتنظيم وتسيير المرفق التجهيز والإشراف والتنسيق أو جميع الوسائل المادية والبشرية، وتقديم الرعاية المعتادة، ويدخل في ذلك التنسيق بين الأطباء على الرغم من صلته بالعمل الطبي . فماهي المبررات التي سيقت في هذا المجال لإقرار مسؤولية المرفق الصحي على أساس الخطأ الجسيم؟ وماهي طرق إثباته؟
2. مبررات إقرار الخطأ الجسيم
إن اشتراط الخطأ الجسيم في المسؤولية عن العمل الطبي يرجع إلى بعض المحددات والتي من أهمها:
-أن العمل الطبي بمختلف أنواعه من تحديد تشخيص المرض، واختيار العلاج وإجراء التدخل الجراحي والرعاية اللاحقة لهذا التدخل يظل صعبا و احتماليا.
-أن عدم اشتراط الخطأ الجسيم من شأنه أن يؤدي إلى زيادة في دعوى المسؤولية الطبية، ومع ما يترتب على ذلك من نتائج تتمثل في زيادة أعباء الرعاية على المواطنين.
-أن الطب في المستشفيات العامة يختلف عن الطب في المستشفيات الخاصة، فالمستشفيات العامة ملزمة بالعمل باستمرار، ولا تختار مرضاها، ونظرا لسمعتها وارتفاع مستوى خدمتها، فإنها تقوم بمعالجة الحالات الصعبة والعاجلة. وبالتالي فإن إخضاع مسؤولية المستشفيات العمومية لنظام الخطأ البسيط يمكن أن يؤدي إلى وقف التطور العلمي للطب في هذه المستشفيات نتيجة تقيد فرصة الابتكار المتزايدة في هذه المستشفيات.
وفي هذا الإطار، فقد اعتبر القضاء الإداري الفرنسي أن الخطأ البسيط لا يكفي لقيام مسؤولية المرفق الصحي، بل لا بد من توفر الخطأ الجسيم، أخذا بعين الاعتبار الصعوبات التي تعترض العمل الطبي والمخاطر الناتجة عنه؛ وهذا ما جاء في قرار استئنافي لمجلس الدولة الذي اعتبر أن الأعمال الطبية تحتاج إلى مؤهلات علمية عالية وتنطوي على عمل معقد، حيث صرح مجلس الدولة في قضية "روزي "rouzet"، أن ما أصاب الطفل، من بثر يده نتيجة الالتهابات بعد ارتكاب خط في الحقن، يدخل في عداد الأعمال الطبية التي تتطلب حصول الخطأ الجسيم لتحمل المرفق الصحي للمسؤولية، وهو أمر غير متوافر في القضية، نظرا لحالة الطوارئ وصغر سن الطفل، الشيء الذي يجعل عملية التمييز بين شرايينه أمرا صعبا.
فبالرغم من أن الضرر كان جسيما – بثر يد الضحية – إلا أن مجلس الدولة اعتبر أن ذلك لم ينتج عن خطأ جسيم، وهذا ما يوضح أن تقدير الخطأ الجسيم يبقى أمرا بيد القاضي الإداري، وليس رهينا بجسامة الأضرار التي تصيب الضحية.
وفي قرار آخر بتاريخ 9 يوليوز 1974، اعتبر مجلس الدولة أن الأضرار الجسيمة والاستثنائية التي أصيب بها الضحية، من جراء الإهمال والتأخر في إعلام أهل المريض بضرورة نقله فوت فرصة علاجه، والحيلولة دون تفاقم حالته الصحية، هي أخطاء جسيمة تتحمل مسؤوليتها المستشفى.
وفي حالة أخرى مختلفة بتاريخ 6 أكتوبر 1976 ، اعتبر مجلس الدولة أن نسيان آلة طبية في جسم المريض، يشكل خطأ جسيما تترتب عنه مسؤولية المستشفى تجاه المريض. الملاحظ أن هذا القرار جاء من مجلس الدولة، رغم أن هذا الخطأ لم يلحق أضرارا مادية مباشرة بجسد المريض، مما يؤكد من جديد سلطة القاضي الإداري في تقدير جسامة الخطأ المرتكب، حسب كل حالة تعرض عليه، سواء أدى ذلك الخطأ إلى ضرر جسدي أم لا.
وقد اتجه القضاء الإداري نحو تطبيق شرط الخطأ الجسيم في عدة حالات أخرى، من بينها عمليات التشخيص، حيث اعتبر مجلس الدولة أن الخطأ في التشخيص يعتبر خطأ جسيما، تؤسس عليه مسؤولية المرفق الصحي، وأن المخاطر المترتبة على صرف الدواء؟ دون إجراء فحص طبي سابق، يعكس الدلائل التي تفضي إلى قيام خطأ جسيم.
وفي اتجاه آخر، اعتبرت محكمة الاستئناف الإدارية بباريس بتاريخ 29 ماي 1990، أن التأخر المبالغ فيه ؛ لإجراء تدليك لتفادي الإصابة بأزمة قلبية، يعتبر خطأ جسيما يتحمل المسؤولية عنه المرفق الصحي ، لكون هذا الأمر يتناسب مع خطر الوفاة، الذي تعرض له المريض أثناء إصابته بالأزمة القلبية، عكس الحالات الأخرى التي أشرنا إليها في السابق، والتي كان فيها الضرر يتراوح بين الدائم والمؤقت.
وكما سبقت الإشارة فإن هذا الموقف يجد مبرره، خارج اعتبار أن العمل الطبي هو عمل معقد، حيث "هاجمت الأكاديمية الطبية الفرنسية؛ في تقريرها بتاريخ 29 شتنبر سنة 1929، فكرة تطبيق المسؤولية التقصيرية على الأطباء – خاصة وأن نسبة ارتكاب الخطأ كبيرة، نظرا لدقة العمل الطبي – حيث قالت أنه إذا تم ذلك فلنقرأ على الطب السلام" ، وهذا ما يفسر اعتماد القضاء الإداري للخطأ الجسيم لإقرار المسؤولية الطبية.
ومن جهة أخرى، فقد أدى اشتراط وجود الخطأ الجسيم في الأعمال الطبية لإقرار مسؤولية المرفق الصحي، إلى إشكالية أخرى هي إثبات جسامة الخطأ، مما قد يعيق حصول ضحايا هذا الخطأ على تعويض عن الأضرار التي لحقت بهم، خاصة وأنه لا يوجد معيار محدد لتصنيف درجة هذه الجسامة. فكيف يتم إثبات الخطأ الجسيم؟
2.إثبات الخطأ الجسيم
يقع عبء الإثبات على الضحية – المدعي – إلا أن تعقد العمل الطبي يقف عائقا في وجه المريض، حيث لا يمكنه معرفة الخطأ المرتكب من قبل الطبيب، خاصة أنه في معظم الحالات يكون إما تحت تأثير التخدير، أو أنه يكون في حالة حرجة لا يكاد خلالها أن يدرك ما يجري من حوله، كما أن الطبيعة المعقدة للعمل الطبي لا تمكن الشخص العادي من تمييز الخطأ الطبي.
إلا أن القاضي الإداري، وبفضل السلطة التقديرية التي يتوفر عليها ، يلعب دورا أساسيا في إثبات الخطأ الجسيم، وذلك من خلال بحثه بصفة أساسية في الملف الطبي للمريض، لمعرفة ملابسات وظروف النازلة ، غير أنه لا يجب أن ننسى أن القاضي الإداري هنا لا يتحمل عبء الإثبات، شأنه في ذلك شأن القاضي العادي، فهو يسند الأمر للمدعي ليثبت بكافة الوسائل صحة دعواه.
ومع ذلك، فالضحية لا يملك سوى الملف الطبي، الذي لا يسعف في كثير من الحالات ، كما أن الإدارة تمتنع في حالات أخرى عن إعطاء الوثائق المتعلقة بالمريض، وذلك للحيلولة دون إثبات المسؤولية عنها لخطأ الذي ارتكبته.
لكن القاضي الإداري، وفي الحالات التي يصعب فيها ملاحظة الخطأ الجسيم، يلجأ إلى الخبرة الطبية ، سواء في المرحلة الابتدائية أو المرحلة الاستئنافية، وهو ما أكده في قراره الصادر بتاريخ 26 يوليوز 1968 ، وأيضا في القرارات السابقة التي متم الإشارة إليها.
ولم يختلف الأمر في قرار Rouzzet – السالف الذكر – حيث تم إثبات الخطأ الذي ارتكبه الطبيب المعالج، إلا أن مجلس الدولة، اعتبر أن حالة الاستعجال التي كان عليها الضحية، وكذلك صغر سنه ينفيان صفة الجسامة عن هذا الخطأ رغم جسامة الضرر.
وتجدر الإشارة إلى أن مجلس الدولة، حسم في اعتبار الخطأ الجسيم من الأخطاء الشخصية، ويسأل عنه الموظف من ماله الخاص ، حيث اعتبر في قراره الصادر بتاريخ 28 دجنبر 2001 ، أن إخفاء معلومات عن المريض وتعريضه للخطر، يشكل خطأ شخصيا لا يتحمل مسؤوليته المستشفى.
إلا أن الأضرار التي تصيب المرضى من جراء الأنشطة العادية للمرفق الصحي (العناية، تقديم العلاج، الوقاية، التشخيص): يتحمل مسؤوليتها المرفق، ولا يمكن متابعة الأشخاص العاملين فيها (أطباء أو ممرضين)، إلا إذا كان سلوكهم يتميز بجسامة قصوى، ويخرج عن نطاق ممارسة الوظيفة ، وهذا أمر يصعب تحديده، ما دام أن الأخطاء الطبية الجسيمة تحدث أثناء النشاط المعتاد للمرفق الصحي ويصعب فصلها عنه، وهذا ما تأكده ندرة الأحكام القضائية في المسؤولية الشخصية في هذا المجال، وفي أقصى الحالات، يعتبر مبرر عسر الطبيب أو الممرض كافيا للتحلل من المسؤولية.
لقد عرف إذن الخطأ الجسيم مجموعة من الصعوبات، التي لم تكن في صالح ضحايا الأخطاء الطبية، بقدر ما كانت تعفي المرفق الصحي من المسؤولية، وذلك بسبب غياب معيار لتحديد الجسامة، فالخطأ الجسيم قد ينتج عنه أضرارا جسيمة، وقد لا ينتج عنه أي ضرر.
وهو ما أدى بالقضاء الإداري الفرنسي إلى اعتماد الخطأ البسيط أو اليسير متجاوزا بذلك فترة طويلة ساد خلالها الخطأ الجسيم.
الفقرة الثانية: موقف القضاء المغربي
وضع المشرع المغربي الخطأ الجسيم كمعيار لمتابعة الموظف بصفة شخصية أمام القضاء العادي رغم أنه لم يحدد أي تعريف لهذا النوع من الأخطاء، حتى يتمكن ضبطه وفرزه عن غيره من الأخطاء الأخرى، لكنه ضمنيا أراد التركيز على السلطة التقديرية المخولة للقضاء من أجل ترتيب الأخطاء حسب درجتها ، كما حاول الفقه بدوره أن يعطي تعريفا محددا لفكرة الخطأ الجسيم رغم أنه بقي صعب التطبيق في أحيان كثيرة، وذلك كما أشرنا سابقا، بسبب غموض الألفاظ التي صيغت بها، ومع ذلك ذهب القضاء منذ البداية إلى ضرورة إثبات الخطأ الجسيم لإقرار مسؤولية المرفق الصحي وليس مسؤولية الموظف الشخصية، وذلك لصعوبة تسيير هذا النوع من المرافق الحيوية.
وهذا بفعل ما ذهبت إليه المحكمة الابتدائية بالرباط في حكمها الصادر بتاريخ 3 مارس 1936، كما قضت في نفس الاتجاه المحكمة الابتدائية بمراكش بتاريخ 11 يناير 1971، حيث اعتبرت أن ترك معدات طبية سهوا أثناء الجراحة داخل لجسم المريض يعتبر خطأ جسيما يشمل مسؤولية المستشفى.
كما قضت المحكمة الإدارية أكادير بتاريخ 21 أكتوبر 2004، أن حرمان الهالكة من تصفية دمها اصطناعيا نظرا لعوزها، يعتبر الخطأ مرفقيا جسيما يتحمل المرفق الصحي مسؤوليته.
فهذا القرار يعتبر أن خطأ هو خطأ مرفقي وجسيم، حيث جمع بذلك بين صفتين للخطأ، أوردهما المشرع في فصلين منفصلين (فصلين 79 و 80 من ق.ل.ع ) وتترتب عن كل منهما مسؤولية مختلفة.
وفي نفس الإطار، قضت المحكمة الإدارية بوجدة بتاريخ 2 مارس 2005 ، بمسؤولية المستشفى عن الخطأ الطبي الذي أدى إلى فقدان الضحية لبصره، وهو ما اعتبرته المحكمة خطأ جسيما يتنافى مع واجب بذل عناية وتوفير الصلاحيات لكل مريض، إلا أن المجلس الأعلى في قراره الصادر بتاريخ 24 فبراير 2007 ، صرح بأن الحكم المستأنف الصادر عن المحكمة الإدارية بمراكش بتاريخ 25 ماي 2005، خرق مقتضيات القانون لاسيما الفصلين 79 و 80 من ق.ل.ع، حيث اعتبر أن الفعل المرتكب من طرف الدكتور المعالج والممرض الذي حقن الهالكة بالدم، يعتبر خطأ شخصيا أدين بسببه أمام المحكمة الزجرية الاستئنافية بمراكش، وبالتالي لا تتحمل الدولة المسؤولية عنه، ولا يمكن الحكم إلا بإثبات عسر المدعى عليه.
وقد أضاف المجلس في حيثياته أن حقن الضحية بدم ليس مطابقا لفصيلة دمها يعتبر خطأ ماديا جسيما، وصل إلى حد ارتكابهما لجريمة تقع تحت طائلة القانون الجنائي، ولا يندرج ضمن المخاطر العادية التي يتعرض لها الموظف في أداء عمله اليومي مؤكدا بذلك الحكم الصادر عن محكمة الاستئناف.
والملاحظ أن هذا القرار قد فصل من خلاله المجلس الأعلى بين الخطأ الجسيم، الذي يتحمل مسؤوليته موظفو مرفق الصحة بصفة شخصية، وبين الخطأ البسيط، الذي تتحمل الإدارة مسؤوليته، ورفض بذلك إمكانية الجمع بين الخطأ الشخصي والخطأ المرفقي، الذي أقرته المحكمة الإدارية بمراكش في المرحلة الابتدائية ، حيث كانت قد صرحت: ..."وإن كان يكتسي طابعا شخصيا كما جاء في الحكم الجنحي الذي حاز قوة الشيء المقضي به، فإنه في نفس الوقت، يعتبر الفعل الضار خطأ طبيا ينسب إلى المستشفى، وتلزم الإدارة بالتعويض عنه.
إلا أن المحكمة الإدارية بالدار البيضاء بتاريخ 16 مارس 2001 اعتبرت أن تدخل المؤسسة الطبية لإخضاع الضحية لعملية جراحية، دون التوفر على الكميات الضرورية من الدم، ودون الاطلاع على التوصيات السابقة المتضمنة في الملف الطبي، وإصابة أحد الشرايين عن طريق الخطأ، كلها أخطاء جسيمة أدت إلى أضرار جسيمة مما يستوجب تحميل هذه المؤسسة المسؤولية.
هذا تعارض بين موقف المجلس الأعلى ومواقف المحاكم الإدارية لا يمكن تفسيره، إلا بكون أن اعتماد معيار الخطأ الجسيم للتمييز بين الخطأ الشخصي والخطأ المرفقي ليس إلا مسألة نظرية، فرفض المجلس الأعلى لقرار المحكمة الإدارية بمراكش، يرتكز منذ بدايته على إشارة هذه الأخيرة إلى إمكانية الجمع بين المسؤولية الشخصية للموظف والمسؤولية الإدارية للمرفق العام، وهو ما يمكن اعتباره أمر محظور بموجب مقتضيات الفصل 80 من ق ل ع، إذ لا يمكن مطالبة المرفق إلا في حالة إعسار الموظف مرتكب الخطأ، وهذا عكس ما هو موجود في فرنسا كما أشرنا سلفا.
هذا الأمر في نظرنا المتواضع لا يكتسي أهمية قصوى، حيث نتساءل ما فائدة المتابعة الشخصية لموظفي المرافق الصحية، بناء على الخطأ الجسيم؟ إذا كان القضاء العادي لا يتعامل مع الأخطاء الشخصية بنوع من الصرامة. والملاحظ، بالرغم من الأضرار التي قد تصل في بعض الحالات إلى الوفاة، فالحكم يكون فيها ثلاثة أشهر حبسا نافذا مع وقف التنفيذ، وتعويض مالي قدره ألفي درهم وقد تكون أدنى من ذلك، شهرين حبسا مع وقف التنفيذ، وتعويض مالي ألف درهم . في حين أن المحكمة الإدارية بمراكش في قرارها السابق رقم 92، قضت في نفس الدعوى بتعويض قدره مائة ألف درهم، في الوقت الذي قضت المحكمة الجنحية بآسفي في نفس الدعوى ، بتعويض مجموعه ثلاث وستون ألف درهم ، علما أنه، في حالة ارتفاع مبلغ الغرامة المالية، فالموظف العمومي يمكنه التحلل من المسؤولية الشخصية، وذلك باللجوء للفقرة الثانية من الفصل 80 من ق ل ع بادعائه العسر المادي؛ مع أن هذا الأمر مستبعد في هذين المثالين، نظرا " لقيمة التعويض المادي الممنوح".
مع كل ما تقدم، يمكن القول أن القاضي الإداري يتمتع بسلطة تقديرية للنظر في الدعوى أو الحكم بعدم الاختصاص، وبالتالي انعقاد الاختصاص للقاضي العادي في الحالات التي يرى فيها جسامة الخطأ المرتكب، ليبقى السؤال، ماذا لو قدمت قضية أمام المحكمة الإدارية في إطار الخطأ الجسيم ودفعت هذه الأخيرة بعدم الاختصاص نظرا لطبيعة الخطأ المرتكب؟ و في المقابل ماذا لو رفعت القيمة أمام المحكمة العادية في إطار الخطأ الجسيم، وقضت هذه الأخيرة بعدم الاختصاص، لكون هذه الدعوى تدخل في إطار الاختصاص النوعي للمحاكم الإدارية حسب الفصل الثامن القانون المنشئ للمحاكم الإدارية؟
إلا أنه، كما أشرنا في السابق، قد يكون من الأنسب للضحية أن تنظر قضيته أمام المحكمة الإدارية بدلا من أن تنظر أمام المحكمة العادية، نظرا لقيمة التعويض المادي الذي تقضي به المحاكم الإدارية.
الفرع الثاني: الإتجاه الحديث في إقرار نظام الخطأ البسيط
الفقرة الأولى: موقف القضاء الفرنسي
يمكن القول أن مجلس الدولة الفرنسي قد عرف تحولا كبيرا في هذا المجال، وذلك انطلاقا من حكمه الشهير، في العاشر من أبريل من سنة 1992 ، ويمثل هذا القرار تطورا تاريخا بارزا في قضاء المسؤولية عن الأعمال الطبية، كما يعتبر هذا القرار خاتمة طبيعية لتطور بدأه مجلس الدولة الفرنسي من قبل.
وتجدر الإشارة أن القضاء الفرنسي قد أظهر مرونة كبيرة في تقييد نطاق الخطأ الجسيم ، وذلك بتوسيعه لمفهوم الخطأ في تنظيم وتيسير المرفق، وبإبداء مرونة كبيرة في تحديد المقصود بالخطأ الجسيم، فمن ناحية، توسع القضاء في فهم الخطأ في تنظيم وتسيير المرفق، مما يعني أن التعويض يستند إلى نظام الخطأ البسيط، من ذلك إجراء تدخل جراحي دون رضى من المريض ، أو القيام بأعمال طبية من غير أطباء. ومن ناحية أخرى، توسع في مفهوم أو المقصود بالخطأ الجسيم في مجال العمل الطبي وإجراء تدخل جراحي دون ضرورة.
وعلى الرغم من هذا المنظور، فإن القضاء الفرنسي لم يهجر نظام الخطأ الجسيم في هذه المرحلة. وهذا الموقف لم يكن بمنأى عن الاعتراض و الانتقاد، إذ لا يوجد مبرر لاشتراط الخطأ الجسيم في المسؤولية عن العمل الطبي في المستشفيات العامة، إذ يكفي الخطأ البسيط لترتيب مسؤولية المستشفيات الخاصة عن العمل الطبي، فالخطأ في كلا الحالتين واحد، ويتم العمل الطبي في نفس الظروف، لذلك كان الانتقال إلى مرحلة جديدة أمرا منطقيا.
وبالرجوع إلى القرار الشهير لمجلس الدولة في قضية Epoux V، والتي تتلخص وقائعه في أن السيدة دخلت إلى إحدى المستشفيات لإجراء ولادة قيصرية، تم تحديدها حول الأم الجافية Anesthésie Résiduelأي حول الغشاء المحيط بالجهاز العصبي المركزي، غير أنه حدثت أخطاء أثناء التدخل الجراحي حيث تم تخديرها حول الأم الجافية بمادة مخدرة ينصح بعدم تقديمها في مثل هذه الحالة، مما أدى إلى هبوط في ضغط الدم؟ وبعد إتمام الولادة ونظرا لحدوث زيف مستمر، فقد تم إعطاء المريضة بلازما لا تعادل درجة حرارتها حرارة الجسم، مما سبب لها فورا آلاما حادة في الذراعين، وأعقبهما توقف في القلب مما اقتضى إجراء إنعاش صناعي في موقع جراحة، وقد تسببت هذه الأخطاء في إصابتها بمتاعب عصبية وجسمانية. ولم يثر المجلس الدولة في قراره السابق الذكر فكرة الخطأ الجسيم مكتفيا فقط بالتأكيد أن هذه الأخطاء تشكل خطأ طبيا يرتب مسؤولية المستشفى، وهو ما طرح إشكالية تحديد مفهوم الخطأ الطبي؟
في هذا الإطار، يمكن القول أن الخطأ الطبي في المرفق العام يتميز بالخصائص الثلاث الآتية:
-يتميز الخطأ الطبي بأنه ليس خطأ جسيما، بقدر ما يمكن اعتباره خطأ بسيطا، ومع ذلك فإن الخطأ الطبي ليس من شأنه أن يجعل التزام الطبيب التزاما بنتيجة، بل يظل دائما التزام بعناية.
يعتبر خطأ الطبي خطأ خاص Faute spécifique، فهو وإن كان خطأ بسيطا، إلا أنه يتم تقديره وفق "لقوانين الطب"، ولا يمكن قياسه على غيره من الأخطاء، ويظل مميزا – على سبيل المثال – عن الخطأ في تنظيم وتسيير المرفق.
- في كونه يشبه الخطأ الطبي الخاص، فكل منهما توأم للآخر، لأن مضمون العمل واحد في كل منها، غير أنه يجب أن يؤخذ في الاعتبار: وسائل المرفق والظروف الخاصة بالوقت والمكان وعنصر الاستعجال وموقف المضرور.
وفي هذا الاتجاه أصبح القضاء الفرنسي من خلال قرار Epoux V مستقرا ووظفته بعض المحاكم الإدارية للاستدلال به في حالات مماثلة مثل حالة فشل عملية التعقيم لمنع الحمل لدى إحدى السيدات.
وقد امتد العدول عن الخطأ الجسيم بشكل كامل في حالتين أخريين. مسؤولية الدولة عن تنظيم ورقابة مراكز نقل الدم والمسؤولية عن مرفق الإسعاف
1. تطبيق نظام الخطأ البسيط في مجال مسؤولية الدولة عن تنظيم ورقابة مركز الدم
كان لمسألة انتقال فيروس "الإيدز" عبر عمليات نقل الدم جوانب عديدة منها ما يتعلق بتطوير أحكام المسؤولية الإدارية للدولة فيما يتعلق بالتقصير في استخدام سلطات الضبط الصحي، فبعد أن كانت مسؤوليتها لا تنعقد إلا في حالة الخطأ الجسيم، فقد أصبح يكفي لقيامها الخطأ البسيط.
1.1. اشتراط الخطأ الجسيم لتقرير مسؤولية الدولة في مجال الضبط الصحي
على الرغم من تردد القضاء في هذا الخصوص، إلا أنه يمكن تفسيره بأنه يميل إلى نظام الخطأ الجسيم، فالقضاء الفرنسي يشترط هذا الخطأ بالنسبة للإجراءات الضبط التي تفترض تقديرا طبيا، مثل قرارات الإيداع في المصحات التقنية والعصبية أو قرار توزيع أحد المنتجات الدوائية ثم تقرير سحبه في وقت متأخر ، غير أن بعض أحكام مجلس الدولة لم تشترط نظام الخطأ الجسيم. فقد رأى المجلس أنه يعتبر " خطأ " تقصير الإدارة في تعديل التعليمات الإدارية الخاصة باستعمال لقاح ضد مرض القلب الذي فرض استخدامه الوزير وذلك بسبب الزيادة غير العادية للمضاعفات العصبية ، غير أن هذا الحكم يشكل، كما تقرر البعض، استثناءا فريدا.
وأعيد البحث موضوع نظام الخطأ في مجال مسؤولية الدولة عن الضبط الصحي في قضية الدم الملوث، فقد لجأ بعض مرضى الهيموفيليا، الذين انتقلت إليهم عدوى الإيدز عبر عمليات نقل الدم، إلى المحكمة الإدارية بمدينة باريس لإدانة الدولة حاليا بسبب تأخر في اتخاذ الإجراءات الضرورية لمواجهة نقل العدوى، إذ ما لم تقم بمنع استخدام منتجات الدم غير الساخنة إلا بتاريخ 20 أكتوبر 1980 وبواسطة منشور. وقد قضت المحكمة الإدارية بمسؤولية الدولة وأقامت قضاءها على أنه نظرا لعدم قيام الدولة بصورة عاجلة بمنع هذه المنتجات، فإن السلطة المختصة بالبوليس الصحي تكون قد ارتكبت خطأ من شأنه أن يؤدي إلى مسؤولية الدولة ، وذلك اعتبارا من 12 مارس 1980 وهو التاريخ الذي تم فيه إبلاغ السلطة الوزارية بأنه من المرجح أن تكون منتجات الدم التي تم تجهيزها في إقليم باريس ملوثة بالإيدز.
وقد أيدت المحكمة الإدارية الاستئنافية بباريس الطعون الموجهة إلى الأحكام المذكورة مؤكدة على مبدأ المسؤولية الدولة عن التقصير في استخدام سلطاتها في تنظيم منتجات الدم، مع تعديل أساس هذه المسؤولية، إذ لا يكفي الخطأ البسيط وإنما يشترط الخطأ الجسيم، وذلك نظرا "للصعوبة المرتبطة بممارسة هذه الوظائف". غير أنه تم الطعن في هذا الحكم من بعض مرضى الهيموفيليا الذين انتقلت إليهم العدوى قبل 12 مارس 1975، واقتصر الأمر بالتالي أمام مجلس الدولة على تقدير سلامة تطبيق القاعدة القانونية، وانتهى المجلس إلى نقض أساس مسؤولية الدولة ونظام أسباب الإعفاء من المسؤولية التي تضمنها حكم المحكمة الإدارية الاستئنافية.
2.1. الانتقال إلى نظام الخطأ البسيط: "حكم مجلس الدولة في 9/2/1993"
لم يشاطر مجلس الدولة الحكم المطعون فيه من قيام مسؤولية الدولة في مجال الضبط الصحي على أساس الخطأ الجسيم، ورأى أنه: "بالنظر إلى نطاق السلطات التي تعهد بها هذه النصوص إلى مرفق الدولة فيما يتعلق بتنظيم المرفق العام لنقل الدم ورقابة المؤسسات المكلفة بتنفيذ واتخاذ الإجراءات الخاصة بضمان سلامة دم الإنسان والبلازما ومشتقاته، وإلى الأغراض التي من أجلها عهد إلى هذه المرافق بشغل الوظائف، فإن مسؤولية الدولة يمكن أن تنعقد عن كل خطأ في ممارسة هذه الوظائف.
والملاحظ أن هذا الحكم يعهد إلى الدولة بدور إيجابي وواسع في مجال نقل الدم ويتمثل في رقابة مراكز نقل الدم، وتنظيمها، ووضع القواعد الخاصة بمنتجات الدم، ووفقا للقواعد التقليدية، فإنه إذا كانت وظيفة الدولة في الرقابة على مراكز نقل الدم تخضع لنظام المسؤولية وفقا للخطأ البسيط، إلا أنه فيما يتعلق بوظيفة وضع القواعد في مجال الضبط، فإن القضاء ليس له موقف واحد تجاهها.
ونظرا إلى أن الغاية التي من أجلها عهد إلى الدولة بالوظائف السابقة فإن حماية الصحة العامة تشكل التزاما على درجة كبيرة من الأهمية إلى درجة أنه ينبغي أن تبذل عناية خاصة في القيام به، الأمر الذي لا يترك مجالا لنظام الخطأ الجسيم. وبناء على ذلك، فإن مسؤولية الدولة تقوم على أساس نظام الخطأ البسيط، في حالة تقصير في استعمال سلطاتها في اتخاذ الإجراءات الخاصة بمنتجات الدم، وتتمثل في التأخر أكثر من اللازم في منع استعمال منتجات الدم الساخنة.
وقد ترتب على تقرير مسؤولية الدولة وفقا لنظام الخطأ البسيط تعديل التاريخ الذي تنعقد فيه المسؤولية، لكون نظام الخطأ البسيط يشترط نفس الخصائص للوضوح والخطورة المقررة بالنسبة للنظام الأول. وبينما قررت المحكمة الإدارية الاستئنافية مسؤولية الدولة اعتبارا من 12 مارس 1975 وهو التاريخ الذي قدرت أن السلطة الإدارية المختصة قد أخبرت فيه بطريقة مؤكدة بالأخطار غير العادية للتلوث بفيروس الإيدز بمناسبة نقل الدم، فإن المجلس قد رأى مسؤولية الدولة تنعقد اعتبارا من 22 نونبر 1974 وهو التاريخ الذي أحيل فيه تقرير الدكتور Brunet على الجهات المختصة ويتضمن كيفية مواجهة انتقال الإيدز عبر نقل الدم، وذلك باستخدام منتجات الدم الساخنة وبمنع توزيع المنتجات الخطرة دون انتظار التأكد من أن جميع وحدات المنتجات المشتقة من الدم ملوثة، وأن هذا التقصير الذي يشكل خطأ من الإدارة من شأنه أن يعقد مسؤولية الدولة بسبب انتقال العدوى عبر عمليات نقل الدم خلال الفترة ما بين 22 نوفمبر 1974 و 20 أكتوبر 1975.
2. تطبيق نظام الخطأ البسيط في مجال مسؤولية الدولة عن نشاط فرقة إسعاف المرضى
انتقل القضاء أيضا من تقرير مسؤولية الإدارة عن نشاط مرفق إسعاف المرضى على أساس نظام الخطأ الجسيم إلى نظام الخطأ البسيط، وذلك انطلاقا من قرار مجلس الدولة في قضية السيد M.Thew ، حيث اقترح السيد مفوض الحكومة J.H.Stahl أمام المجلس العدول عن نظام الخطأ الجسيم، وذلك لأن هذا النظام ظهر بديلا عن نظام عدم المسؤولية الإدارية أو عن نظام الخطأ الجسيم بدرجة استثنائية، وإذا كان ظهور نظام الخطأ الجسيم يمثل تقدما بشأن تحديد مبدأ عدم المسؤولية، إلا أنه ينظر إليه الآن على أنه تقييد غير مبرر لمبدأ مسؤولية الإدارة، وينظر إليه المتضرر من نشاط الإدارة على أنه نوع من قرينة عدم المسؤولية والتي تحول دون تعويض المتضرر، وهو الأمر الذي يعتبر إنكارا للعدالة.
غير أن مفوض الحكومة لم يغب عنه أن يبين أن لتحديد ما إذا كان قد وقع خطأ بسيط في تنظيم أو تنفيذ عمليات الإنقاذ، فإنه يجب الأخذ في الاعتبار الصعوبة الداخلية للعملية ومقتضيات الاستعجال التي يواجهها عمال الإدارة، وإن هذه الخطورة ليست نظرية لكنها تتم من خلال بحث واقعي دقيق ومتشدد لكل حالة على حدة.
وقد شاطر المجلس اقتراح مفوض الحكومة بالتخلي عن نظام الخطأ الجسيم. وقرر بأنه "نظرا لظروف المناخية و صعوبة الرؤية، فإن قرار العدول عن نقل المريض بطائرة مروحية لم يشكل خطأ من شأنه أن يرتب مسؤولية المركز الطبي". كما يبدو أن المجلس أخذ بالاعتبار أيضا الصعوبات الخاصة بنقل المريض، فهو يقرر بأن عدم إجراء التدخل الجراحي للمريض إلا في الساعة الثانية والنصف من صباح اليوم " لم يكن راجعا إلى التأخر بضع دقائق الناتجة عن إخبار رجال الإنقاذ باستحالة نقل المصاب بالطائرة المروحية، لكن كان راجعا إلى الصعوبات الخاصة بنقله بالطريق البري بسبب خطورة حروقه". و خلص المجلس من هذا كله إلى أن المركز الطبي الإقليمي لم يرتكب "أي خطأ"، ليطبق مجلس الدولة أيضا هذا الاتجاه في مجال إنقاذ السفن الغارقة.
الفقرة الثانية: موقف القضاء المغربي
نص المشرع المغربي على هذا النوع من الأخطاء، في الشطر الثاني من الفصل 79 من ق.ل.ع، إلا أنه لم يحدد الفاصل بينهما وبين الأخطاء التي تعتبر جسيمة لكون هذا الأمر متروك للسلطة التقديرية للقاضي الإداري، الذي يبث في الدعوى دون إشارة لبساطة الخطأ المرتكب من طرف المرفق الصحي بل يكتفي فقط بالإشارة للفظ الخطأ مجردا وذلك بقوله في عديد من أحكامه "حيث إن الخطأ المذكور تسبب في إلحاقه أضرارا بالمدعية تمثلت في تجريدها من عضو سليم من جسدها مع ما يترتب عن ذلك من مضاعفات سلبية على صحتها وعلى نفسيتها، سيما وأنها مسنة ولا تتحمل إجراء عملية ثانية من أجل علاج الورم الحقيقي.
وحيث أنه باستجماع عنصري الخطأ والضرر والعلاقة السببية بينهما، تكون مسؤولية الجهة المدعى عليها قائمة، وبالتالي يتعين الحكم بتقريرها طبقا لمقتضيات 79 من ق.ل.ع".
وفي نفس الإطار، جاء في قرار صادرعن المجلس الأعلى ما يلي: "حيث يعيب الطاعن على القرار عدم الارتكاز على أساس وخرق القانون ذلك أن الطالب أثار في مقاله الاستئنافي أن الدولة المغربية غير مسؤولة .... كما أن المحكمة لم تعمل على مطابقة وقائع النازلة بالنص القانوني الذي أسست عليه الدعوى وهو الفصل 79 من ق.ل.ع الذي يرتب مسؤولية الدولة بتحقق الأضرار الناتجة عن تسيير إدارتها وعن أخطاء موظفيها، وهو لم يثبت أي خطأ يعزى إلى الهيئة الطبية كما أن تقرير الخبير الذي اعتمدت المحكمة شقا منه، تطرق إلى استحالة تحديد المسؤول عن الضرر، مما كان معه القرار المطعون فيه مؤسسا على مجرد احتمالات وافتراضات وتعين بذلك نقضه.
حقا تبين صحة ما نعته الوسيلة على القرار ذلك أنه طبقا للفصل 79 من ق.ل.ع، فإن مسؤولية الدولة عن الأضرار الناتجة مباشرة عن تسييرها إدارتها أو من الأخطاء المصلحية لمستخدميها، لا تفترض وإنما لا بد من إثبات الخطأ المصلحي المنسوب إلى موظفيها".
غير أن تطورا مهما عرفه الاجتهاد القضائي المغربي من خلال قرار الغرفة الإدارية الصادر بتاريخ 21 فبراير 1975 في مجال المسؤولية الطبية، حيث ميز لأول مرة بين الأنشطة الطبية والجراحية التي يلزم لقيام المسؤولية عنها توافر الخطأ الجسيم، وسن الخدمات البسيطة للعلاج التي يقوم بها الممرضون دون تدخل للطبيب. إلا أنه نظرا لعدم تجسيد هذا النوع من الأخطاء لحالة الخروج الصارخ عن القانون المرفق في بعض الحالات، فإن القاضي الإداري، لا يتمكن من فصله عن عمل المرفق الصحي، وبالتالي يعتبر خطأ مرفقيا وليس شخصيا.
إلا أن المحكمة الابتدائية بالقنيطرة، لم تشر إلى جسامة الخطأ الذي ارتكبه المرفق الصحي المتمثل في بتر اليد اليسرى للضحية من منبت الكتف، وذلك بعدما دخل المستشفى من أجل علاج بسيط.
وفي قرار لها، اعتبرت المحكمة الإدارية بالرباط بتاريخ 1 مارس 2005 أن التقصير في التشخيص وما يتبع عنه من فشل للعملية الجراحية التي أجراها الطاقم الطبي، وفقدان الضحية لبصره في العين اليمنى، هو خطأ تقوم معه مسؤولية المركز الاستشفائي الجامعي.
نفس المحكمة بتاريخ 17 أبريل 2006، فسرت الخطأ الذي ارتكبه الطبيب بأنه إخلال بالتزام تحقيق نتيجة وكذلك ببذل عناية، الذين يقعان على عاتق الطبيب في القطاع الخاص ، كما في القطاع العام، واعتبرت أن الإعاقة التي أصابت المولود هي نتيجة إهمال في عملية الولادة.
وفي قرار حديث للمحكمة الإدارية الدارالبيضاء اعتبرت أن الخطأ في هذه النازلة، يأخذ شكلا موضوعيا وماديا، إذ ينتج عن خلل في نشاط المرفق الذي ينسب إليه الخطأ وتقرر خلاله مسؤولية مصحة الضمان الاجتماعي بالحي الحسني للأم والطفل. هذا القرار لم يعتبر أن الغيبوبة والشلل التام، الذين أصابا الضحية أثناء إجراء العميلة ناتجتين عن خطأ جسيم، على الرغم من إشارته إلى أن التخدير الذي خضع له الضحية تم بواسطة ممرض عادي، في حين أن عمليات التخدير يقوم بها أطباء متخصصون. ومن جهة أخرى، فإن العملية الجراحية – كما ذكر ذلك القرار – قامت بها طبيبة "فاسدة وغير متبصرة ".
وهو نفس الاتجاه الذي أيده المجلس الأعلى من خلال قراره الصادر بتاريخ 26/3/ 1998، حيث ذهب إلى تأييد الحكم الابتدائي مع رفع التعويض المتعلق بالمصاريف الطبية والتنقل، إلا أنه اختلف معها في وصف درجة الخطأ، وفي الاستغناء عن إثباته، ذلك أن المجلس الأعلى جارى الوكيل القضائي في المناقشة المتعلقة بعدم توفر الخطأ الجسيم لقيام مسؤولية الدولة مع أن الفصل 79 المذكور لا يشترط جسامة الخطأ المرفقي لقيام مسؤولية الدولة بخلاف ما هو عليه الحال في الفصل 80 من نفس القانون؛ فلو كانت نية المشرع متجهة إلى ذلك لنص عليه في صلب الفصل 79 من القانون المذكور مثلما فعل أيضا في الفصلين 82 و 83 من نفس القانون بالنسبة لقيام مسؤولية الأشخاص العاديين. ومن جهة ثانية يلاحظ أن المجلس الأعلى أعفى المتضرر من إثبات الخطأ الجسم عندما صرح بأن الخطأ ليس في حاجة إلى إثبات وكأنه بهذا التعليل يلبس المسؤولية الإدارية بناء على الخطأ رداء المسؤولية الإدارية بدون خطأ، إذ سبق أن قرر أن مسؤولية الدولة المبنية على فكرة المخاطر طبقا للشق الأول من الفصل 79 من ق.ل.ع يكفي لقيامها إثبات العلاقة السببية دونما حاجة لإثبات الخطأ.
إلا أن المجلس الأعلى سيعدل عن موقفه السالف الذكر وذلك من خلال قرار صادر سنة 1994، حيث يساوي بين المسؤولية الإدارية بدون خطأ والمسؤولية الإدارية بناء على الخطأ المصلحي بخصوص إثبات خطأ المصلحي بعلة أن المسؤولية الإدارية طبقا لمنطوق الفصل 79 بشقيه لاتفترض؛ ومما جاء في القرار: "طبقا للفصل 79 من ق.ل.ع، فإن مسؤولية الدولة عن الأضرار الناتجة مباشرة عن تسيير إدارتها، أو عن الأخطاء المصلحية لمستخدميها لا تفترض، وإنما لا بد من إثبات الخطأ المصلحي المنسوب إلى أحد موظفيها، والملف الحالي خال مما يفيد نسبة الخطأ المصلحي إلى الهيئة الطبية لمستشفى ابن زهر بمراكش التابع للدولة ...".
وهكذا يلاحظ من خلال قراءة حيثيات هذا القرار ناقض للقرار السابق الصادر في 17/11/1978 كما يتناقض مع القرار اللاحق عليه الصادر في 26/3/1993 المتعلق بقضية مركز تحاقن الدم؛ من حيث أنه أوجب إثبات الخطأ حتى بالنسبة للمسؤولية بدون خطأ. كما أنه أقر بضرورة إثبات الخطأ (وهو عين الصواب) بالنسبة للمسؤولية المبنية على الخطأ المصلحي طبقا للشق الثاني من الفصل 79 المذكور خلافا لموقفه في قضية مركز تحاقن الدم والتي صرح في قراره الصادر في شأنه في 26/3/1998 بأن الخطأ الجسيم "الخطأ المرفقي" ليس في حاجة على إثبات.
وبناء على ما سبق، فإن التأكد من وجود الخطأ الجسيم مسألة لا تحتاج الوقوف عندها طويلا من طرف القاضي، بقدر ما يكتفي بالتأكد بوجود الخطأ الواضح ليقرر بوجود مسؤولية المرفق الصحي، الشيء الذي بدأ يوحي باتجاه القضاء الإداري نحو ضمانات أكثر حماية للمتضرر من جراء خطأ المرفق الصحي، حيث ذهبت المحكمة الإدارية الرباط بالقول: "وحيث يتمثل الخطأ الواضح من جانب الطاقم الطبي لمستشفى عمر الإدريسي الذي أجريت فيه العملية المستأنفة أنه لم يضمن سلامة هذه الأخيرة من أي مضاعفات محتملة ... وحيث تبقى بالتالي المسؤولية الطبية والإدارية قائمة في مواجهة المستشفى المذكور التابع لوزارة الصحة العمومية طبقا للفصل 79 من قانون الالتزامات والعقود، وأن الحكم المستأنف حينما قضى برفض الطلب لم يصادف الصواب ويكون بالتالي معرضا للإلغاء...".
وفي قرار آخر حديث لمحكمة الاستئناف الإدارية الرباط والذي استمرت فيه على نفس النهج حيث أكدت: "لكن حيث المستقر عليه قضاء أنه لا يشترط لقيام المسؤولية الطبية أن يكونا لخطأ الطبي على درجة كبيرة من الجسامة، بل إن المسؤولية الطبية حسب التوجه الحديث تقتضي فقط قيام الخطأ الواضح الذي يستشف من ظروف وملابسات كل نازلة، والتي يمكن للقضاء أن يعتمدها كقرينة قوية يضيفها إلى باقي القرائن الأخرى للوقوف على الخطأ الطبي لإقرار المسؤولية الطبية من عدمها ".

هكذا فالقاضي الإداري ومن خلال اجتهادات محكمة الاستئناف الإدارية سار يلطف من مواقفه من خلال بعض النقط الأساسية في المسؤولية، ويمكن القول أن الأحكام الحديثة لم تعد تشترط وجود الخطأ الجسيم لقيام المسؤولية الطبية، ذلك أن غالبيتها تقع من جانب الطبيب أي كانت درجتها، إذ يعتبر ذلك كافيا لانعقاد المسؤولية، وبالتالي فقد أصبح الحديث عن وحدة الخطأ الطبي أمرا متاحا من خلال التوجه القضائي في الآونة الأخيرة الذي أصبح يؤكد على فكرة الخطأ الواضح لانعقاد المسؤولية الطبية.

0 التعليقات لــ "المسؤولية الإدارية لمرفق الصحة بين الخطأ الجسيم والخطأ البسيط"

ملحوظة :

التدوينات و التعاليق المنشورة في مدونة المادة الإدارية بالمغرب لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع .